الخميس، 28 مارس 2013

عولمة الأدب العربي المعاصر


عالمية وعولمة الأدب العربي المعاصر
يتناول هذا البحث إشكالية العلاقة بين الثقافة العربية والثقافة الغربية من حيث: اختلاف الثقافات، الأسباب والنتائج، ثنائية حوار/ وصدام الثقافات، الاختراق والمنافسة مع الآخر، الجوائز العالمية مؤشراً.

اختلاف الثقافات أمر طبيعي على مرّ التاريخ لأسباب كثيرة، ولكن طبيعة هذه الاختلافات وصورها ومظاهرها تحولت تدريجياً إلى نوع من الصدامات والصراعات والمواجهات لأسباب سياسية ودينية وفكرية، جعلت المشهد الثقافي أقرب إلى ما يسميه (هنتنجتون): صدام الحضارات بدلاً من: حوار الحضارات، الذي يفترض أن تكون عليه العلاقة مع الآخر.

في هذه الدراسة نرصد أوجهاً من هذه الاختلافات كما وضحها ادوارد سعيد واستقصاها بعمق وتروّ في كتابه “الاستشراق”، للوقوف على بعض أسباب التشويه والتحريف الذي لحق بصورة العربي (والشرقي بعامة) في الثقافة الغربية، كما نرصد بوادر تحول هذا الصدام إلى نوع من التعرّف والاقتراب من صورة الآخر (العربي) بعد أن حاز عدد من الأدباء والمفكرين العرب جوائز عالمية مرموقة، بدءاً بجائزة نوبل لنجيب محفوظ ومروراً بجوائز دولية كبيرة نالها محمود درويش وادوارد سعيد وأمين معلوف والطاهر بن جلون وأدونيس.. وغيرهم. حيث طرأ شيء من تحسين الصورة القديمة وإن كان طفيفاً، وبخاصة في الثقافة الغربية، ولكن ليس في الإعلام الغربي، كما سنرى.

بحث ادوارد سعيد في كتابه (الاستشراق: Orientalism) ادوارد سعيد: الاستشراق، ت: كمال أبو ديب ص 37-.45) طبيعة العلاقة بين الشرق والغرب، وبخاصة الشرق العربي، ووقف عند ظاهرة تشويه صورة العربي في الثقافة الغربية، وقام بتحليل دواعيها وخفاياها وأهدافها منذ بدايات عصر النهضة، وبدايات الصراع بين الشرق والغرب حضارياً ودينياً وسياسياً وفكرياً.

ويخلص ادوارد سعيد في دراسته إلى أن الغرب، لزمن بعيد، يحاول تشويه صورة الشرق والتقليل من شأنه وتسفيه منظوماته الفكرية السلفية غير المتطورة، يقول (.. ومنذ أواخر القرن الثامن عشر، أصبح الاستشراق أسلوباً غريباً للسيطرة على الشرق واستبنائه وامتلاك السيادة عليه، واكتسبت الثقافة الغربية المزيد من القوة بوضع نفسها موضع التضاد مع الشرق، باعتباره ذاتاً بديلة أو حتى سريّة تحترضية (تحت أرضية) (المرجع السابق، ص 39).

وواضح أن ادوارد سعيد يشير إلى مشروع غربي محدد الأهداف والوسائل، وهو أن الغرب يتوجس خيفة من (هذا الشرق) لأسباب تاريخية معروفة، حيث كان العرب أصحاب حضارة خضعت لها الدنيا. والغرب لا يريد للتاريخ أن يعيد نفسه، فحدد هدفه الخفي والمعلن وهو ألا تقوم لهذه الأمة أو الحضارة أو الثقافة قائمة في المستقبل. ولذلك يضع الغرب نفسه في موقع (التضاد) مع الشرق، موقع الصدام، لا موقع حوار الثقافات وتكامل الحضارات، كما ينظر الغربي أيضاً إلى هذا الشرق العربي وكأنه قنبلة موقوتة، أو خلية إسلامية دينية أو تنظيم سرّي يهدد حضارة الغرب ووجوده وهويته وثقافته. والغرب لا يستبعد ذلك لأنه (ملدوغ) سابقاً من هذا (الشرق) كما يتصور ويتذكر.

فإذا كانت هذه أهدافاً غربية قديمة، فإنها ازدادت قسوة وصداماً وعراكاً بعد دخول الدولة العبرية حلبة الصراع، فأشعلت كل جبهات المواجهة بين الشرق والغرب: السياسية والدينية والثقافية وغيرها، ثم استغلت الأجواء المتوترة بين فترة وأخرى، وأمعنت في تشويه صورة العربي والمسلم والشرقي في كل ما تطاله يداها من وسائل إعلامية وثقافية وغيره، وما تطاله يداها كثير، كما نعلم جميعاً. ولذلك أصبحنا نرى في تلك الوسائل الصورة النمطية للشرقي أو العربي: قاطع الطريق في الصحراء، المنغمس في أجواء النساء والخمر، والمعادي للتطور والرقي والتحضر، كما يحدث في أفلام (هوليود) وأفلام الكارتون والتقارير الإخبارية الموجهة في اللحظات الخطرة، كما حدث في أيام معاهدة (كامب ديفيد مثلاً) عندما عرضت وسائل الإعلام الغربية فيلماً عن معاهدة السلام بين مصر و”إسرائيل”، في عام ،1979 وقارنت بين البلدين، فأظهر الفيلم المناطق الشعبية الفقيرة في مصر في مقابل المناطق الراقية في “إسرائيل”، مع تعليق: أن “إسرائيل” ستسهم في تطوير العرب الفقراء. وبدا الأمر كأنّ العرب يعيشون في العصر الحجري، وأن “إسرائيل” (المنقذ) الذي سيأخذ بيدهم (كرما وتطوعا) إلى عصر العلم والحضارة.

فإذا كان اختلاف الثقافات بين الأمم أمراً طبيعياً منذ القدم، فإن تقاليد هذا الاختلاف قد شُوّهت وحُرّفت وأخرجت بصورة صراع الثقافات في الغرب، وتحديداً صراع الثقافة الغربية المستنيرة المفتوحة المتحضرة مع الثقافة العربية المتخلفة المغلقة المتعصبة، وحديثاً الإرهابية التي تريد تدمير حضارة الغرب. واستغلت أحداثاً كثيرة في الفترة القريبة لتجذير هذه الصورة المشوهة، ولتعميمها على الأمة كلها بتاريخها وثقافتها وعقيدتها ومستقبلها. وهذا أمر يحتاج إلى موقف ثقافي وإعلامي وسياسي مضاد لمنع تداعياته الخطيرة.

ثنائية

حين نعود إلى التاريخ القديم نجد نوعاً من صدام الحضارات، ولكن في كل مرة كان يحدث هذا التداخل والتبادل والإفادة من كل ثقافة ترتقي بالإنسان، عقلياً وروحياً ومعرفياً، إلى غير ذلك. فثقافة الإغريق المسرحية أفادت الدنيا كلها في الآداب والفنون والإبداع، وحضارة الفراعنة في علوم الهندسة والتحنيط قد اختصرت أزماناً طويلة من البحث والتطور. وحضارة العرب والمسلمين قد أضاءت العالم الغربي في عصوره المظلمة، وهكذا. وعلى الرغم من وجود خلافات أو خروجات على هذا المفهوم في حوار الثقافات والحضارات قديماً، إلا أن ذلك لا ينفي هذا التعاضد والتلاقي والاستفادة في الحضارات القديمة، بعضها من بعض.

في العالم المعاصر، يحدث بالطبع هذا التلاقي والتبادل والإفادة في كثير من المجالات، ولكن حين نأتي إلى هذه المسألة الخاصة بالثقافة العربية والغربية تتبعثر الصورة ويحتد الصراع وتتحول المسألة إلى حالة حرق وإحراق لأغراض بعيدة عن التطور الحضاري والمعرفي والإنساني. ولذلك بدأت أصوات كثيرة اليوم تطرح مقترحات وتصورات وأساليب لمعالجة هذه الظاهرة التدميرية للثقافات المختلفة التي تحرفها عن مسارها الطبيعي أو البنائي المفيد.

وانطلقت في السنوات الأخيرة حركات ونداءات ومؤتمرات تصب في هذا الاتجاه، لوقف التردي في العلاقات الثقافية وإعادتها من حالة (الصدامية) إلى حالة (الحوارية)، أو من الاقتتال والإفناء والاتهام إلى التكامل والبناء والإثراء. وهذه الرؤية أو التوجه سيكون مفيداً وبنّاء ومؤثراً في جهتين: الأولى، أنه يُظهر الصورة الحقيقية العميقة للثقافة العربية، والثانية، أنه يفوّت الفرصة على العدو المتربص بوجود هذه الأمة، وبثقافتها وبمستقبلها، المندفع باستماتة نحو تشويهها وتحقيرها والقضاء عليها.

لكل ذلك، لابد من دعم أصوات حوار الحضارات لثقتنا بمنجزنا الثقافي الإبداعي، الذي ينافس الآن عالمياً، والذي يقدر أن يغير جزءاً من الصورة السلبية عن ثقافتنا في الغرب. وسوف تصب هذه الأصوات في تيار معرفة ثقافة الآخر، الآخر الغرب بالنسبة لنا، والآخر نحن بالنسبة للغرب. وبخاصة أن هذا الاتجاه بدأ يتبلور في السنوات الأخيرة بعدما دخل الأدب العربي ساحة المنافسة، وتفوّق في حالات ومناسبات وجوائز عديدة.

كما أسهم هذا الإنجاز الثقافي العربي في الغرب، مثلما أسهمت ثقافات أخرى من إفريقيا وأمريكا اللاتينية والهند واليابان وغيرها، في تشكيل مفاهيم نقدية جديدة  ما بعد الحداثة  من مثل: الواقعية السحرية والنقد الثقافي والتاريخانية الجديدة وغيرها، حيث انطلقت من محاولة الغرب (معرفة الآخر) الذي تفوق عليه في نوبل وغيرها، فاطلع على كتاباته واضطر أن يبحث في ثقافة الآخر ليفهم هذه الكتابات التي نافست كتاباته وتفوقت عليها في مناسبات شتى. وبدأت دراسات غربية تبحث في التراث العربي والإسلامي والتراث الهندي والإفريقي وتراث أمريكا الجنوبية حتى تفهم كتابات نجيب محفوظ والطاهر بن جلون وأمين معلوف وسنغور وماركيز وسلمان رشدي، وغيرهم، ممن دخلوا باب المنافسة وحازوا جوائز عالمية كبيرة. فمن مصلحة الأدب العربي والثقافة العربية الدخول بقوة إلى ساحة حوار الحضارات والثقافات لأن لدينا فعلاً الكثير مما يمكن إضافته إلى الأدب الإنساني.

رصدت الموسوعة البريطانية Encyclopedia Britannica عدداً من التعليقات والمقتطفات من الصحف والمجلات الأجنبية عند فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل عام ،1988 تحمل انطباعات متنوعة، وتوحي بأفكار ودلالات كثيرة. ومن هذه التعليقات:

(.. للمرة الأولى.. عربي يفوز بجائزة نوبل).

(.. جائزة نوبل لنجيب محفوظ.. هي جائزة للأمة العربية).

(.. أول كاتب عربي يحظى بالتكريم العالمي.. جائزة نوبل لنجيب محفوظ من مصر)، وغير ذلك كثير.

وإذ تركز هذه التعليقات على أكثر من بعد، فهي تنطوي على المفاجأة والدهشة من أن يقتحم كاتب عربي جدار نوبل الذي حجبه عنها لزمن طويل. كما تشير إلى أن الجائزة نوع من الاعتراف بالأدب العربي المعاصر، لأول مرّة، ممثلاً بشخص نجيب محفوظ. وأخيراً فإن هناك إشارات خفية توحي بأن هذه الجائزة تحاول تعديل صورتها السابقة التي لم تكن تخلو من التحيّز أو الخلل في تدخل أسباب غير إبداعية أو أدبية في منح هذه الجائزة.

على أية حال، فإن هذا الإنجاز الثقافي والأدبي الذي اقتحم حمى المنافسة على أرفع الجوائز في العالم، وفاز بها، دلّ على مرحلة جديدة من المثاقفة، وأنه لابد من الاعتراف بالآخر مهما طال الزمن، ومهما تدخلت أساليب ووسائل لا علاقة لها بالأدب والثقافة لمنعها وحجبها عمن يستحقها، سواء كان ذلك في العالم العربي أو في أماكن أخرى من العالم، كما أسهمت في إرساء تقليد جديد للاختلاف فيما بين الثقافات، يخفف من حدّة الاستراتيجية السابقة للجائزة، التي كانت تستبعد ثقافات أو مواقف أو اتجاهات تتعارض مع ثقافة الآخر، وهذا الآخر بالطبع هو الغرب، أو من يدور في فلكه فكراً وموقفاً وانتماء.

ولقد انفتحت أبواب آمال عريضة للإبداع العربي بعد نوبل نجيب محفوظ، وأحس المبدع العربي أن الغبن أو الحجر الذي كان مفروضاً عليه قد استبعد أو عُلّق، وراح يفكر في المنافسة للوصول إلى هذه الجائزة. وقد رأينا عدداً من الأسماء العربية ترشح لنوبل في كل عام من الأعوام التي تلت عام 1988. كما رأينا عدداً آخر من المبدعين والمفكرين العرب قد نال جوائز عالمية أخرى أقل من نوبل بقليل، ولكنها جوائز كبيرة ومرموقة، من مثل محمود درويش وأدونيس والطاهر بن جلون وادوارد سعيد وأمين معلوف، وغيرهم كثير. وقد حاز هؤلاء جوائز عالمية برغم اختلاف الثقافات والايديولوجيات، وهو مؤشر على تداخل الثقافات وحوارها واستقلالها نسبياً عن الأطر غير الفنية والفكرية التي كانت تشوبها في السابق.

ولقد قدّم نجيب محفوظ مشروعه الثقافي الفكري الأدبي إلى العالم، بعد أن عايشناه هنا قرابة نصف قرن، وأسهم مثل ماركيز وغيره في نقل الأضواء المسلطة على بؤر الثقافة المعروفة في عواصم النور والتحرر والإبداع الغربية، إلى مناطق أخرى متعثرة (نامية) بعيدة عن الأضواء والصخب الحضاري. إلا أن هذه البلاد ومبدعيها يملكون مشروعات ثقافية وحضارية لابد أن تسهم في اكتمال الصورة المعاصرة للوضع البشري في آماله وآلامه، في انتصاراته وانكساراته وفي بحثه عن التحرر والقيم الجميلة والخلاص من نوازع الشر والانهيار والتمزق والدمار الذي يتهدد الإنسان اليوم في كل بقاع الأرض.

حلم

أما مشروع نجيب محفوظ الثقافي والفكري، فإنه ينطلق أساساً من حلم الإنسان قديماً وحديثاً، وهو الارتقاء بالإنسان من التخلف إلى المعرفة، من الشقاء إلى السعادة، ومن الظلم والغبن والقهر والخوف والحرب إلى الاستقرار والحرية والحب والجمال. ولقد طرح نجيب محفوظ في مشروعه الثقافي وفي ثنايا رواياته جدلية العلاقة ما بين الإنسان في واقعه وإمكانياته وموروثاته الفكرية والأخلاقية والروحية، وبين تطلعاته وأحلامه وتحولاته الحضارية والتكنولوجية والمادية. ورصد محفوظ هذه الجدليات والتناقضات والصدامات في مستوياتها المختلفة، بدءاً بجدليات الواقع الحياتي اليومي، وانتهاء بجدليات الوجود الفلسفية الكبرى.

وقدم نجيب محفوظ رؤية للحياة والوجود والمصير، شغل بهموم الإنسان البسيط والمثقف والفيلسوف، كما شغل بهموم الجماعة والشعوب في بحثها الدائم وكفاحها المرير لتحقيق الحرية والانعتاق من كل قهر أو بطش أو طغيان، طغيان الفرد أو السلطة أو الاستعمار، من ناحية، وطغيان الفكر أو الأيديولوجيا أو الرأي الواحد، من ناحية أخرى. وهي جدليات شغلت عمالقة الأدب والفكر في كل زمان ومكان.

وأخيراً، فإن هذا المشروع الفكري الإبداعي الثقافي الذي أخلص نجيب محفوظ له على مدى ستين عاماً أو أكثر، بشكل دائم متواصل جاد صارم، قد دفع به إلى قمة الإبداع الأدبي والإنساني في عصره، وكان مشروعاً عميق التجربة، بعيد النظر، واسع الآفاق، برؤاه الفكرية والفلسفية، وبأساليبه الفنية المتميزة المؤثرة، وهو مشروع يحتاج إلى دراسات معمقة فنياً وفكرياً، وهو ليس مجالنا هنا.

أما محمود درويش فقد أسهم أيضاً في (عولمة) الأدب العربي المعاصر في مجال الشعر، ونال جوائز عديدة، كان أهمها عالمياً، جائزة (لانون Lannan للحرية) في مجال الآداب في العام 2001. وهي جائزة تقديرية ذات قيمة كبيرة معنوياً ومادياً، ومكافأتها تبلغ (350) ألف دولار أمريكي، وقد تكون بعد نوبل مباشرة. وإن حصول محمود درويش تحديداً على هذه الجائزة من أمريكا له مدلولات ومؤشرات كثيرة، من أهمها: استقلالية الجائزة، واستحقاق الشاعر لها، والدخول في مرحلة (ثقافة الآخر) وتداخل الثقافات وحوارها، وأخيراً: المشروع الثقافي الذي يحمله شعر محمود درويش الذي ينطوي على قيم الحرية والعدالة والإبداع، وهي قيم منسجمة تماماً مع توجه الجائزة ومع اسمها (جائز لانون للحرية).

 والمشروع الثقافي لمحمود درويش في مجال الإبداع الشعري ينطلق من الأطر الإنسانية العامة، كما هو الحال عند نجيب محفوظ وكبار الكتاب في العالم، من حيث الانتقال بالإنسان من الشقاء إلى السعادة، ومن الظلم إلى الحرية ومن الآلام إلى الآمال، إلا أن محمود درويش له أطره الخاصة وواقعه المأساوي وتجربته المريرة مع احتلال وطنه وتشريد شعبه في فلسطين. وهي حالة فجائعية صبغت مشروعه الثقافي الشعري بلون رثائي حزين، يرثي فيه الذات والوطن الضائع والأمة المتهاوية، ولكنه في الوقت ذاته على يقين (بأن الزمان يخبئ له سنبلة) انظر كتابنا (الشاعر الغاضب، محمود درويش) مؤسسة حمادة  الأردن 1994 (قصيدة الأرض)، وأنه لابد أن يعود الحق لأهله وإن طال الزمن. فهو ينطلق من جدلية الصراع ما بين البقاء والفناء، الحياة والموت، الحرية والعبودية وكذلك الكابوس والحلم، وينتصر أخيراً للحياة والحرية والحلم، وهي حيثيات جوهرية في منح الجائزة الدولية.

وأخيراً، فإن منح جائزة لانون للحرية لمحمود درويش، قد فتح أبواباً أخرى أمام المبدع العربي، مثلما كان بالأمر مع نوبل نجيب محفوظ، حيث أصبحت الطريق معبدة (وسالكة) للوصول إلى جوائز عالمية من دون القيود التقليدية القديمة التي تستبعد أو تستثني ثقافة ما، أو موقفاً ما، أو انتماء ما، لا يتوافق مع ثقافة الغرب أو موقفه أو انتمائه. وغدت ظاهرة معرفة الآخر، وتعدد الثقافات وحوار الحضارات مسألة مقبولة أو حتمية بمرور الوقت، وبتحول العالم إلى قرية صغيرة، كما يقال في التعبير الشائع اليوم، في عصر الفضائيات وعصر اللاأسرار.

ثالثاً: ونال ادوارد سعيد جائزة (لانون) أيضاً في مجال الدراسات الأدبية والنقدية، ونال أمين معلوف جائزة الصداقة الفرنسية العربية، ونال أدونيس والطاهر بن جلون جوائز عالمية أخرى رفيعة ومرموقة.. وغيرهم كثير. وكل هذا يشير إلى مرحلة جديدة من تداخل الثقافات وتبادل المعارف ومعرفة الآخر الذي أصبح جاراً محاذياً قريباً بعد أن كان في أماكن قصية بعيدة. كما يشير ذلك إلى أن الثقافة العربية بدأت تأخذ مكانها المناسب في خريطة الآداب العالمية، تنافس وتضاهي وتتفوق في مجالات عديدة.

وكل هذه التحولات راحت تسهم في إرساء قواعد جديدة لمظاهر الاختلاف الطبيعي بين الثقافات، بحيث تتجه إلى التلاقي والتكامل والمعرفة، لا إلى الصدام والمواجهة والإلغاء. وأصبح ضرورياً أن يعكف الباحثون على معرفة ثقافة الآخر ليفهموا لغته وقضاياه وهمومه وأحلامه، بعد أن أصبح الانغلاق والقطيعة وإغلاق النوافذ أمراً مستحيلاً في هذا العصر.