الثلاثاء، 23 يونيو 2015

حوار صحيفة الخليج ـ الشارقة



أين هو الآن في واقعنا الحاضر ذلك النثر الفني الأدبي الذي عرفناه في عصور صعود الأدب العربي قديماً ومع بداية النضهة؟ وهل لا يزال في كتاب العرب من يكتب بمستوى الإبداع الذي كتب به أسلافه؟
الدكتور أحمد الزعبي أستاذ الأدب العربي في جامعة الإمارات في العين هو أحد الأكاديميين المتخصصين في الدراسات الأدبية، ومن النقاد المتابعين لواقع الأدب العربي الذي يكتب اليوم. هنا يجيب الزعبي عن بعض الأسئلة التي وجهناها إليه، حول الموضوع.

أين النثر الأدبي العربي اليوم من ذلك النثر الفني الذي عرفناه في الأدبي العربي القديم ومع بداية النهضة الحديثة؟

** إن الكتابة عموماً في مأزق في كل بلاد الدنيا، وسبب ذلك راجع بالدرجة الأولى إلى عصر سريع متقلب ممزق دام، انحسرت فيه الثقافة الجادة حدّ الغياب والتغييب، وتراجع فيه الأدب إلى ذيل القائمة من اهتمامات الإنسان المعاصر المحاصر بالخوف والقلق والطمع والفقر والجهل، والمشوش بالصراعات والحروب وجنون التكنولوجيا المحرّفة، والمشوه كذلك بالزيف والدجل والمراوغة والأحلام الكاذبة؛ فالكتابات الأدبية بعامة، العربية والعالمية، تعاني وضعاً محبطاً وأزمة خانقة، وهي الأزمة نفسها التي تعانيها الآداب والفنون والثقافة بشكل عام في عصر وجّه مساره العام نحو مخترعات العصر وصراعاته الاقتصادية ومبتكراته الإعلامية، إلى غير ذلك، ولم يكن الإبداع والكتابة بعامة بعيدين عن هذه المسارات أو الأولويات التي تتصدر اهتمامات الإنسان المعاصر. ومظاهر هذه الأزمة تتجلى في الكاتب والكتابة والمتلقي، وتنجر على المؤسسات الثقافية ودور النشر.

لو بدأنا بالكاتب، فما مظاهر تلك الأزمة لديه؟

** لقد طغى على كثير من الكتابات الأدبية المعاصرة الانشغال بصغائر الأمور الفردية وقشور القضايا الاجتماعية والعاطفية دون التعمق في حركة تحولات الفكر المعاصر وقضاياه المعقدة، فجاء السرد - في أغلبه - ضعيف البناء ركيك الأسلوب، غثّ المضمون، محدود التأثير، كما يتهدد الكتابة النثرية، في كثير من الأحيان خطر عدم التمييز ما بين «الخبر» أو المقالة أو التقرير الصحفي، وبين القصة الفنية الإبداعية، وهذا يتطلب من المبدع عمق المعرفة وسعة الأفق ومواكبة حركة الإبداع المتجددة؛ لكي يبدأ من حيث انتهى الآخرون، فيضيف شيئاً ما.. لا أن يكرر ما كتب فقط؛ فكثير من كتّاب اليوم يفضلون كتابة (الوجبات السريعة)، وكأنهم يسابقون نشرات الأخبار أو كاميرات الفضائيات المباشرة، فتأتي الكتابة متسرّعة (مسلوقة) تفقد عمقها وإبداعها وتأثيرها الذي يفترض أن يستمر طويلاً، كما نرى في كتابات خالدة كثيرة، من مثل: (ألف ليلة وليلة) و(رسالة الغفران) و(حي بن يقظان) إلى كتابات جبران وطه حسين ونجيب محفوظ وعبدالرحمن منيف.. إلى آخر قائمة الكتابات التي تحيا في زمنها وفي الأزمان المقبلة أيضاً.

والقارئ، ما علاقته بأزمة الكتابة؟

** إن القصة أو الرواية أو المسرحية تعكس هموم الأفراد والجماعات بعامة، تجسد آمالهم وآلامهم، ورؤاهم وأسئلتهم، لكنّ الأزمة أو المشكلة التي تعانيها هذه الكتابات تكمن في قراءتها أو تلقيها، فلا أحد يريد أن يقرأ في هذه الأيام بشكل جاد، والسبب أن العصر أفرز فهما خاطئاً مؤداه أن القراءة لم تعد تجدي أو تفيد في شيء، وبخاصة في عصر مادي محموم، وقد تفاقم هذا الوهم وصدقه كثيرون فابتعدوا عن الأدب وقراءته من دون أن يشعروا أنهم فقدوا شيئاً ذا بال، فحدث التراجع وعدم التواصل بين القارئ وما يكتبه الأديب.

القراءة لم تمت كلياً، وإن كانت تراجعت، لكن قارئ اليوم يطلب مواصفات في النص الذي سيقرؤه، أليس كذلك؟

** القراءة تراجعت كثيراً إلى حد الانحسار، ومع ذلك ما زال هناك قراء يريدون النص القصير المكتنز الذي يقدم لهم وجبة أدبية ساخنة سريعة. وقد رأى نجيب محفوظ بوادر ذلك في محطات عمره الأخيرة، فكتب روايات قصيرة، وكان هذا إدراكاً حصيفاً لمساحة القراءة التي تضيق في عصر سريع يعج بقضايا كثيرة قلصت وقت القراءة المطلوب، وهذا جعل القارئ المعاصر يضيق بالوصف والإنشاء ولزوم ما لا يلزم في كثير من الروايات المطولة؛ لأنه يحس أنه في مرحلة الإيحاء والتلميح والتكثيف في الكتابة، فأنت لا تحتاج إلى مئة صفحة لتقول لأحد الناس إنك مشتاق إليه وقد قتلك الحنين والهجر والبعد، إلى آخره، في حين تستطيع أن تقوله له: اشتاق إليك، اشتياق الأرض الجافة إلى المطر، مثلاً، وهذا لا يعني، في آخر الأمر ألا تكون هناك روايات طويلة، فقد تكون هناك ضرورات موضوعية وفنية تقتضي ذلك، ولهذا حديث آخر.

ألا يتحمل الكتّاب جزءًا من مسؤولية عزوف القارئ عن كتاباتهم؟

** هذا صحيح، فتقنيات الكتابة المعاصرة وأساليبها المعقدة وترميزاتها المراوغة الغامضة أحدثت نوعاً من القطيعة بين الكاتب والقارئ العادي، والأدب أو الإبداع أو الكتابة في كل آداب الدنيا هي، بشكل أو بآخر، آداب إنسانية، أي عن الواقع الإنساني وإن ارتدت مختلف الأثواب والتيارات والاتجاهات؛ فكاتب اللامعقول لا يتحدث عن واقع آخر غير واقعنا، وكذلك الأمر عند كتاب العبث والتجريد وغيرهم، فهم في أي شكل يخترعونه وبأي «جنون» يبتدعونه، يتحدثون عن الواقع الإنساني. ولهذا نرى أن الكتابة الجديدة أو القديمة، والمدارس الغريبة أو المألوفة، كلها تنبع من واقع إنساني وتصب فيه مهما اختلفت في تقنياتها وأساليبها وغموض دلالاتها، والإشكالية هي أن هناك خطين يتطوران في آنٍ واحد: خط تطور الفنون من جهة، وخط تطور العقلية البشرية من جهة أخرى، والأدب يوازي بين الخطين بالضرورة، فهو لا يستطيع أن يتراجع أمام التطور الطبيعي لحركة الفن وعليه أن يواكبه، ولا يستطيع أيضاً أن يهمل التطور العقلي أو الحضاري للإنسان المعاصر. ولهذا فإن قصة اليوم بأساليبها المختلفة لا يمكن أن تعود إلى العصر الكلاسيكي أو الرومانسي؛ لأن الفنون تطورت وعلى القصة أن تواكب هذا التطور وتسهم في ارتياد الآفاق الجديدة والرؤى الجديدة لتضمن البقاء والاستمرار، فالكاتب المبدع يسحب الناقد سواء كان أكاديمياً أو غير ذلك إلى الكتابة عن إبداعاته والنقاد يكتبون باستمرار عن أعمال إبداعية عربية وأجنبية ولا يستثنون الأدب الأدب المحلي لغرض ما، وإنما ينتظر بعضهم أن تكون الأعمال المحلية بالمستوى العربي أو العالمي ليكتب عنها. لا أظن أن النقد يقصر حين يكون الإبداع أصيلاً، أما نقد المجاملات والشللية فإنه على الرغم من حتمية سقوطه واندثاره فنياً وتاريخياً بمرور الوقت فإنه مضر بأعمدة الإبداع: الكاتب والناقد والقارئ والكتابة.

أين هم ناثرو اليوم من أولئك الكتاب الكبار الذين سطروا بأقلامهم مسيرة النثر العربي؟

- يفرز كل عصر أعلامه وكتابه الكبار الذين يرتقون بفكر عصرهم ويستفاد من هذا الفرز في العصور التالية، وينطبق هذا على أعلام النثر العربي القديم والحديث أيضاً؛ فكلنا بات هو الجاحظ وابن المقفع وابن طفيل والمعري وابن شهيد الأندلسي وابن حزم وكاتب ألف ليلة وليلة، وغيرهم من كتاب النثر القديم الذين أسهمت كتاباتهم في تعميق مفهوم الثقافة وتطوير المعارف في ذلك العصر، وتطوير العقلية الفلسفية والإبداعية التي أفاد منها العالم كله بعد ذلك. وقد تكرر مثل هذا الإبداع النثري مع بداية عصر النهضة العربية في فترة لقاء الحضارات، حيث أفرزت النهضة مفكرين وكتاباً كباراً أسهموا في الارتقاء بمجتمعاتهم في مجالات الفكر والمعرفة والإبداع، كما رأينا في كتابات جبران والشدياق والمويلحي والبستاني والطهطاوي وهيكل وطه حسين والعقاد والمازني، والقائمة طويلة من الذين أثروا حركة الفكر والثقافة والمعرفة في مسيرة هذه الأمة على مدى القرن العشرين، ومع أن كل عصر ينجب مئات الأعلام والمبدعين إلا أن من تخلد كتاباتهم قليلون في كل عصر أو أقل أحياناً، فقد عاصر شكسبير آلاف الكتاب، ولم تخلد إلا كتابات القليل منهم، وكذلك في عصرنا الحاضر، فلدينا آلاف الكتاب سيبقى منهم بعد قرن مثلاً ما لا يتجاوز أصابع اليدين، بمعيار الإبداع الحقيقي والعبقرية التي رأيناها عند عباقرة العصور الماضية، ومع أن لكل عصر رجالاته وعباقرته إلا أن عصرنا أصبح عصر التسرع حتى في الفكر والإبداع، وكأن الثقافة والمعرفة تخطف خطفاً، أو يسابق بعضها بعضاً، فيغيب العمق والتروي والتحليل الذي اتسم به عباقرتنا السابقون.

*** صحيفة الخليج، الشارقة، 25 مايو 2015 (الملحق الثقافي)